• الدولة والتاريخ عند هيجل

    التاريخ بالنسبة لهيجل له جنب ظاهري وجانب باطني، ويتمثل ظاهره في الاحداث والوقائع التي تبدو في حالة فوضى ودون هدف، وباطنه هو تلك الروح التي تجعل له مسارا محكما معقولا. وتكشف الروح عن نفسها وعن وعيها الذاتي بالحرية من خلال وقائع التاريخ. وتاريخ العالم عنده يعبر عن تقدم الوعي بالحرية، فلم يكن الشرقيون  القدماء على وعي بأن الروح حر ، لذلك لم تكن هناك حرية الا للفرد الواحد، وكان مفهوم الحرية لديه غامضا فجا يتمثل في الاستبداد والطغيان ، ثم انبثق الوعي بالحرية لأول مرة لدى اليونان، ولكن الحرية لدى الامتين اليونانية والرومانية كانت للبعض سواء اكان هذا البعض اقلية ممثلة في الارستقراطية، أم أكثرية ممثلة في الديمقراطية ، فالنظام الاجتماعي في الامتين قائم على الرق، ومن ثم كانت الحرية جزئية عرضية، ولم تصل الحرية الى مرحلة الوعي الكامل الا لدى الامة الجرمانية متمثلة في بروسيا . [1] 

    يبدو التاريخ في ظاهر مسرحا للنشاط الإنساني وتمثل شخصيات التاريخ دورا بارزا فيه، وتبدو افعالهم راجعة الى مواهبهم وانفعالاتهم واحتياجاتهم، كما لو كانوا يعبرون عن مصالحهم في حرية تامة، وليس ادل على ذلك من اننا نرد مسار التاريخ الى افعالهم فنقدر من أدوا خدمات جليلة لأوطانهم، وندين من جروا على اوطانهم الشرور والنكبات. غير أن النشاط البشري بما في ذلك اعمال الرجال العظام ليس الا مجرد وسيلة لتحقيق غاية لا يعرف هؤلاء عن امرها شيئا، مع أنها متضمنة في افعالهم ومتحققة في تصرفاتهم. ان هؤلاء الافراد يفعلون ما يشاؤون و يشبعون ما يشتهون، ولكن ذلك ليس الا دورا ثانويا وجزئيا في اطار كل عام ، فليس موضوع التاريخ أفعال الافراد ، وانما موضوعه ذلك الصراع بين العوامل والقوى المتعارضة. ووعي الروح بذاتها بل تحقيقها لذاتها من خلال هذا الصراع وهنا تثار مشكلة الحرية والضرورة، فبينما تبدو أفعال افراد التاريخ حرة، فإن المبدأ الكامن وراء تصرفاتهم يتصف بالضرورة، وهذا هو الجدل كما يتحقق في التاريخ .

    ان مصالح الافراد ورغباتهم وافعالهم وبطولاتهم ليست الا خيوط غزل في نسيج عام هو هدف الروح من مسار التاريخ . فاذا كان انتصار قيصر قد حقق وحدة الإمبراطورية متمثلة في حكم الفرد الواحد، كان ذلك امرا ضروريا لا لتاريخ زمانه فحسب بل لتاريخ العالم في تلك الفترة من الزمان، فهو وإن حقق مصلحة شخصية الا انه قد حقق أيضا عن غير وعي منه أيضا ارادة روح العالم. ومن ناحية أخرى لقد حقق اخرون بافعالهم ما لم يكونوا يحتسبون،  وفشلوا في تحقيق ما يشتهون ، فمات الاسكندر شابا ، وقتل قيصر ونفي نابليون .

    ان الروح تسخر بدهائها ارادات الافراد لهدفها الأوحد. وهذا لا يتعارض عند هيجل مع الحرية الفردية و المسؤولية، لأن هذه احكام أخلاقية والاحكام الأخلاقية عرضية لا تتعلق بصميم ما هو حادث في التاريخ.

    الدولة عند هيجل :

    الدولة هي وحدة دراسة التاريخ، انها الحرية في صورتها الواقعية، انها تمثل تموضع الروح أو الفكرة الإلهية متجسدة على الأرض. وكل نشاط بشري وكل عمل فكري انما يتحقق من خلال الدولة وانظمتها، ومن ثم فهي الصورة النهائية التي عندها تشكل موضوع التاريخ.

    ولكن الديالكتيتك يكشف عن تناقض بين القول ان الدولة تمثل الحرية في صورتها الواقعية، وبين الراي الشائع أن الدولة تحد من حرية الفرد، أو أن الفرد ولد حرا، ثم تقيد الدولة حريته. ولكن هذا القول حسب هيجل راجع الى الالتباس اللازم عن تجريد الحرية عن مضمونها وهدفها . وحينما تقيد الدولة حرية الفرد، فانما تقيد غرائزه الوحشية. وعليه فن هذا التقييد هو جزء من الوسائل التي بها يحقق الوعي بالحرية ذاته. وحين يشار الى الدولة أنها تعبر عن إرادة الكل فلا يعني ذلك إرادة مجموع الافراد، وانما هي إرادة أعلى من الافراد وخارجة عن نطاق مطالبهم، فليس للافراد من سلطان على الدولة، لأن هذه تنتمي الى عالم الروح . وقيام الدولة امر عقلي في ذاته من حيث انها تعبر عن إرادة الروح وتموضعها او تجسدها في صورة واقعية، وكما أنه ليس للعين من قيمة اذا اقتلعت من الجسم كذلك ليس للفرد من قيمة خارج نطاق الدولة وارادتها. ويرى أن الدولة تتركز في سلطة الملك او الحاكم لأنه يعبر عن إرادة الروح، وحتى لو ظهر انه يعمل من اجل مصالحه فإنه من خلال هذه المصالح تتحقق رسالة التاريخ، ومن ثم فإن اعمال رجال التاريخ لها مبررها وفقا لمبدأ باطني في مسار التاريخ، ولا تتعلق به الاحكام الأخلاقية. فلا مجال للأخلاق في التاريخ لأنها نسبية وتعبر عن ذاتية، وعليه فان مسار التاريخ عند هيجل يكشف عن تقدم الروح نحو تحقيق كمالها. 



    [1]  ـ محمود صبحي في فلسفة التاريخ ص ص 208