• علاقة الفلسفة بالحضارة والتاريخ

    تمهيد

    تحديد مصطلح فلسفة الحضارة يقتضي إلقاء نظرة سريعة على الحقول المعرفية القريبة منها حتى يتضح المعنى أكثر ، و الاقرب إلى ذلك هي فلسفة التاريخ ، وتاريخ الحضارة .

    فلسفة التاريخ

    فلسفة التاريخ اقرب إلى الفلسفة منها إلى التاريخ ، ذلك لأن فيلسوف التاريخ يقوم باختزال العلل الجزئية للوقائع الفردية إلى علة واحدة ، ثم يفسر في ضوئها التاريخ العالمي . فهذا ابن خلدون مثلا سيطرت عله فكرة التشابه بين الحضارة وحياة الكائن الحي فظهر ذلك في تصوره لمسيرة المجتمعات . وأصحاب نظرية العناية الالهية سيطرت عليهم فكرة مفادها أن التاريخ مسرحية كتبها الله ويمثلها الإنسان وسيطرت على ماركس فكرة دور الاقتصاد في توجيه سلوك الإنسان في التاريخ .ثم إذا كانت فلسفة الحضارة تنطلق من وقائع جزئية إلى أحكام كلية فإن فلسفة التاريخ تشهد عملية تنازلية عندما يخضع التاريخ لفكرة مسبقة لدى فيلسوف التاريخ ، والذي يحاول جعل كل الأحداث التاريخية تتطابق معها . وربما لهذا تعرضت فلسفة التاريخ للنقد وخاصة ما صدر عن بندتوكروتشه الذي يرى أن فيلسوف التاريخ يكون خاضعا لفكرة مسبقة لدرجة تجعله يصبغ التاريخ بلونها ، وعندما يجد بعض الأحداث لا تتفق مع نظريته ، فإنه إما يتجاهلها ، أو يؤولها بما يتفق مع نظريته .

    تاريخ الحضارة

    أما تاريخ الحضارة فهو عمل يقوم به المؤرخ وفق منهج تاريخي معين متطرقا إلى الحضارات التي عرفتها البشرية في كل مكان وزمان مقتصرا على عرض الأحداث بشكل كزونولوجي ، متتبعا أطوار الحضارة من البدايات إلى النهاية مع إمكانية الخوض في الأسباب والنتائج على أن لا يتجاوز ذلك إلى حد وضع قوانين كلية ثم يطبقها على كل الحضارات ، لأنه في هذه الحالة يكون قد دخل في دائرة اختصاص فلسفة الحضارة .

    فلسفة الحضارة

    في فلسفة الحضارة نستخلص من وقائع تاريخية جزئية معينة أحكاما كلية ـ وبالتالي يكون منهجها استقرائيا يعتمد على النظر في الجزئيات لتشكيل تصور شامل وشأنها في ذلك شأن الفلسفة ، لكن المسافة التي تفصل فلسفة الحضارة عن الفلسفة أبعد من المسافة التي تفصل بين فلسفة التاريخ والفلسفة ، وبعدها النسبي عن الفلسفة لا يعني أنها اقرب إلى التاريخ .

    وإنما يسعى فيلسوف الحضارة أن يحافظ على تواجده في الوسط بين الفلسفة والتاريخ ، محاولا أن يستمد الأمثلة من التاريخ معتمدا على مناهج المؤرخين ، ثم عندما يشرع في تفسير مسيرة الحضارات نجده يعتمد على مناهج وطرق الفلاسفة  التي تنزع دائما إلى الكلية والتعميم ، ولا تهتم بالماضي إلا بالقدر الذي يساعدها على استشراف المستقبل .

    إن فلسفة الحضارة غير تاريخ الحضارة لأنها لا تقتصر على عرض الوقائع وإنما تسعى إلى تعليل وتفسير هذه الوقائع ومحاولة الوصول إلى أحكام عامة في الحضارة يمكن تعميمها على الحضارات المتشابهة .

    مثال :

    عندما نقول أنجبت أثينا فلاسفة من أمثال سقراط ، فنحن في إطار تاريخ الحضارة، لكن لو قلنا تنجب الديمقراطية الفلاسفة والمفكرين حينها نكون إزاء فلسفة الحضارة. وعندما نقول إن صولون لما حكم أثينا كان مهتما بالجوانب الاجتماعية للمواطنين وفي عصره أصبح متاحا لكل مواطن الحق في التظلم ضد الولاة ، هنا نحن بصدد التاريخ . لكن عندما نقول كانت سياسة حاكم أثينا تهدف لحماية المواطن نكون أمام فلسفة الحضارة .

    وهذا يعني أن فلسفة الحضارة لا تهتم بالجزئيات وكل وقائع التاريخ إلا بقدر ما يمكنها أن تضع قانون عام يمكن تطبيقه على الحضارات في أمكنة وأزمنة أخرى . ومن هنا قد تكون فلسفة الحضارة أشبه بعلم أصول الفقه الذي يضع القواعد الكلية التي يحتكم إليها الفقهاء عند التعرض للفتوى في المسائل الجزئية .

    وقد اتضح مما سبق أن الهدف من فلسفة الحضارة هو الوصول إلى تفسير  لمسيرة الحضارات ووضع قوانين كلية وعامة تكون شاملة لكل الحضارات في كل مكان وزمان دون أن تكون خاضعة لفكرة مسبقة وإلا تحولت إلى فلسفة التاريخ . بل عليها أن تهتدي في أحكامها الكلية بما ينتج عن استقراء أحداث التاريخ ووقائعه الجزئية .

     

    وفلسفة الحضارة ضرورية للشعوب المقهورة التي يمكن أن تساعدها في العثور على مفاتيح التقدم والإبداع الحضاري . لكنها من جهة أخرى قد تستغل من طرف القوى الامبريالية للتعرف من اجل اكتشاف مواطن الضعف لدى الشعوب المتخلفة ومن ثم تسهل عملية الهيمنة و الاستغلال وإحكام السيطرة عليها .