• عوامل الحضارة و مقاييسها

    تمهيد

    رأينا عند تعريفنا للحضارة والثقافة وجود تداخل بين هذين المصطلحين فالحضارة لدى البعض تخص الأشياء المادية مثل العمران . أما الثقافة فتخص الإنتاج الفكري والفني و الأدبي . في حين يذهب البعض الآخر إلى العكس من هذا تماما وسواء كنا مع الموقف الأول أو الثاني فان الإبداع الحضاري يفترض وجود عوامل أساسية فما هي هذه العوامل ؟

    عوامل الحضارة

    تبدأ الحضارة عند ول ديورانت عندما ينتهي الاضطراب و القلق لأنه إذا امن الإنسان من الخوف تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع ثم يمضي في طريقه لفهم الحياة خاصة في ظل استفزاز الطبيعة المستمر ومن هذه العوامل ذكر العوامل الجيولوجية ويعني بها أن تكون ارض الحضارة غير معرضة للكوارث الطبيعية كالبراكين و الزلازل .

    وأشار إلى العوامل الجغرافية  على أساس أن الحرارة المرتفعة لا تساعد على الإبداع الحضاري ونفس الشيء بالنسبة للبرودة القاسية . وإنما الحضارة تتطلب جو معتدل و تربة خصبة واتصال بالبحر لبناء المرافئ التي تمكن أفرادها من الاتصال مع غيرهم من الشعوب ، ومن الأفضل أن يكون موقعها يتوسط الطرق التجارية .

    يضاف إلى هذا التمتع بنظام سياسي واقتصادي وتوفر وحدة لغوية مع الاتفاق على عقيدة رئيسية وضمان وجود تربية بغرض نقل الثقافة بين الأجيال . وهناك من يشترط وجود العقل والضمير والذوق الرفيع .

    مقاييس الحضارة

    ميز قسطنطين زريق بين التحضر والحضارة ، فالحضارة عنده تطلق على الحالة التي تميز نا عن البدائيين من البشر ، كما أنها تطلق أيضا على الوحدات التاريخية فنقول الحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية . لكن التحضر له معنى واحد فهو يشير إلى مستوى معين من التقدم . لهذا يرى من الصواب أن نقول مقاييس التحضر وليس مقاييس الحضارة .

    لكن يوجد من يعترض عل القياس في حد ذاته سواء تعلق بالحضارة أم التحضر  لأنه ليس من السهل الاتفاق على مقاييس موحدة لكل الحضارات ، ثم تصنيف هذه المقاييس تنازليا أو تصاعديا ، وهذا بسبب نقص الموضوعية أثناء وضع هذه المقاييس حيث تدخل الذاتية بشكل لاشعوري ، خاصة و انه ليس من السهل فصل الباحث في الحضارة عن ثقافته وقيمه . ويزداد أمر القياس تعقيدا إذا كنا أمام دراسات غير متعاصرة حول حضارة واحدة ، فنجد حكم باحث معاصر عن الحضارة الإسلامية يختلف عن حكم صدر قبل هذا بخمسة قرون. وحتى مع افتراض المعاصرة بين الباحثين فإن انتمائهما إلى حضارتين مختلفتين لا يساعد على تكوين حكم موضوعي لأيا منهما .

    لهذا أنكر البعض عملية وضع مقاييس للتحضر ومن هؤلاء ازوالد اشبنجلر فالحضارات عنده هي جزر ثقافية لا مجال للمقارنة بينها . ضف إلى هذا أنه من غير المقبول أن نبالغ في انبهارنا بالحضارة الحالية ونتجاهل أنها ما كانت لتصل إلى هذا المستوى لولا جهود الحضارات السابقة .

    هذه الاعتراضات على وجاهتها لاتمنع من محاولة  وضع مقاييس للتحضر مادامت الحضارة مجهود بشري ، والابداع الحضاري متوقف على نشاط العقل ، ولما كانت العقول متشابهة بين الناس كما قال ديكارت ، فإنه يمكن وضع مقاييس للتحضر وتكون قابلة للتطبيق على كل الحضارات ومن هذه المقاييس نذكر النمو الديمغرافي من حيث معدل الوفيات و الولادات في المجتمع المتحضر ، والنظر في وضعية الصحة والتعليم و طرق الزراعة و الصناعة ومستوى الحريات الفردية والسياسية وحجم ونوعية الآثار الفكرية والفنية والدينية مع التركيز على هذه العناصر الأخيرة لأنها لا تعتمد على التراكم الذي يحكم تطور العلوم التجريبية . اذ نجد بعض الأعمال الفنية التي ظهرت قديما لازالت تتصدر أرقى الأعمال من نوعها إلى اليوم. ثم ننظر في مدى انتشار هذه العناصر أفقيا وعموديا . مع مراعاة الزمن عند المفاضلة بين الحضارات فلا نحكم على الشعوب القديمة بالتخلف من خلال مقاييس الحضارة الحالية ، بل ننظر إليها بما كان ممكن في زمانها . ثم لا ينبغي أن نحكم على امة بالتخلف وذلك بالتركيز على الطور الأخير من حياتها ، في حين نحكم على غيرها بالتقدم ونحن نركز على ازهي عصورها . لهذا ينبغي النظر في ادوار الحضارة بشكل عادل فننظر إلى عناصر القوة والضعف في مرحلة النشأة ثم الازدهار ثم الانهيار  في الحالتين .

    اما حسين مؤنس وبما ان الحضارة عنده هي ثمرة اي مجهود يقوم به الانسان لتحسين ظروفه المادية والمعنوية فمقياس الحضارة عنده هو التحس المادي والمعنوي والتحسن المعنوي مقدما على التحسن المادي لان غاية التحسن هي شعور الانسان بالامان والاطمئنان والكفاية وقيام مجتمعه على التعاون والمحبة والامان يشمل الامان على النفس والمال والاهل والوطن والاطمئنان هو شعور داخلي بالبعد عن الخطر اما الكفاية فهي شعور الانسان بان لديه ما يكفيه مما يحتاج اليه او يطمح اليه والكفاية تشمل الماديات والمعنويات كالامان والاطمئنان